سورة المائدة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل} كلامٌ مستأنفٌ مشتمِلٌ على ذكر بعضِ ما صدَر عن بني إسرائيلَ من الخِيانة ونقضِ الميثاق وما أدّى إليه ذلك من التّبِعاتِ، مَسوقٌ لتقرير المؤمنين على ذكر نعمةِ الله تعالى ومراعاةِ حقِّ الميثاقِ الذي واثقهم به، وتحذيرِهم من نقضِه، أو لتقرير ما ذُكر من الهم بالبطش وتحقيقِه، على تقدير كون ذلك من بني قريظة حسْبما مرّ من الرواية ببيان أن الغدرَ والخيانة عادةٌ لهم قديمةٌ توارثوها من أسلافهم، وإظهار الاسمِ الجليل لتربية المهابةِ وتفخيمِ الميثاق وتهويلِ الخطبِ في نقضه، مع ما فيه من رعاية حقِّ الاستئنافِ المستدعي للإنقطاع عما قبله، والالتفاتُ في قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً} للجري على سَننِ الكِبْرِياء، أو لأن البعثَ كان بواسطةِ موسى عليه السلام كما سيأتي، وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مرّ مراراً من الاهتمامِ بالمقدَّم والتشويقِ إلى المؤخَّر، والنقيبُ فعيل بمعنى فاعل مشتقٌ من النَّقْب، وهو التفتيش، ومنه قوله تعالى: {فَنَقَّبُواْ فِى البلاد} سُمِّيَ بذلك لتفتيشِه عن أحوال القومِ وأسرارِهم. قال الزجاجُ: وأصله من النقْب وهو الثقب الواسع. رُوي أن بني إسرائيلَ لما استقروا بمصْرَ بعد مَهْلِكِ فرعونَ أمرهم الله عز وجل بالمسير إلى أَرِيحاءِ أرضِ الشام، وكان يسكُنها الجبابرةُ الكَنعانيون، وقال لهم: إني كتبتُها لكم داراً وقراراً فاخرُجوا إليها وجاهِدوا من فيها وإني ناصِرُكم، وأمر موسى عليه السلام أن يأخُذَ من كلِّ سِبطٍ نقيباً أميناً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به توثِقَةً عليهم، فاختارَ النقباءَ وأُخذ الميثاقُ على بني إسرائيلَ وتكفَّلَ إليهم النُقباء، وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعانَ بعث النقباءُ يتجسّسون فرأَوْا أجراماً عظيمةً وقوةً وشَوْكة، فهابوا ورَجَعوا وحدَّثوا قومَهم بما رأوا، وقد نهاهم موسى عن ذلك، فنكثوا الميثاقَ إلا كالبَ بنَ يوقنا نقيبَ سبطِ يَهوذا، ويُوشَعَ بنَ نونٍ نقيبَ سِبطِ أفراييمَ بن يوسُفَ الصّديقِ عليه الصلاة والسلام، قيل: لما توجه النقباءُ إلى أرضهم للتجسس لقِيَهم عوجُ بنُ عنق، وكان طولُه ثلاثة آلاف سنة، وكان على رأسه حُزمةُ حطب، فأخذهم وجعلهم في الحُزمة وانطلق بهم إلى امرأته، وقال: انظُري إلى هؤلاء الذين يزعُمون أنهم يريدون قتالنا، فطرَحهم بين يدَيْها وقال: ألا أطحَنُهم برِجْلي، فقالت: لا بل خلِّ عنهم حتى يُخبِروا قومَهم بما رأوا، ففعل فجعلوا يتعرّفون أحوالَهم، وكان لا يحمِلُ عنقودَ عِنبِهم إلا خمسةُ رجال، أو أربعة، فلما خرج النقباءُ قال بعضُهم لبعض: إن أخبرتم بني إسرائيلَ بخبر القومِ ارتدوا عن نبي الله، ولكنِ اكتُموه إلا عن موسى وهارونَ عليهما السلام، فيكونان هما يَريانِ رأيَهما، فأخذ بعضُهم على بعضٍ الميثاقَ ثم انصرفوا إلى موسى عليه السلام وكان معهم حبةٌ من عنبِهم وِقْرَ رجل، فنكثوا عهدَهم وجعل كلٌّ منهم ينهى سِبْطه عن قتالِهم، ويُخبرهم بما رأى إلا كالبَ ويوشعَ، وكان معسكرُ موسى فرسخاً في فرسخ فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم رجع إلى الجبل، فقور منه صخرة عظيمة على قدْرِ المعسكر ثم حملها على رأسه ليُطبِقَها عليهم فبعث الله تعالى الهُدُهُد فقوَّر من الصخرة وسَطَها المحاذِيَ لرأسه، فانتقبت فوقعت في عُنُق عوج، وطوقته فصرَعَتْه، وأقبل موسى عليه السلام وطولُه عشرةُ أذرُعٍ، وكذا طولُ العصا، فترامى في السماء عشرةَ أذرع، فما أصاب العصا إلا كعبَه وهو مصروعٌ فقتله، قالوا: فأقبلت جماعةٌ ومعهم الخناجرُ حتى حزّوا رأسَه.
{وَقَالَ الله} أي لبني إسرائيل فقط إذ هم المحتاجون إلى ما ذُكر من الترغيب والترهيب كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيدِ ما يتضمنه الكلام من الوعد {إِنّى مَعَكُمْ} أي بالعلم والقدرة والنُّصرة، لا بالنصرة فقط، فإن تنبيهَهم على علمِه تعالى بكل ما يأتون وما يذرون وعلى كونهم تحت قُدرته وملكوتِه مما يحمِلُهم على الجد في الامتثال بما أمروا به والانتهاء عما نُهوا عنه، كأنه قيل: إني معكم أسمع كلامَكم وأرى أعمالَكم وأعلم ضمائِرَكم، فأجازيكم بذلك، هذا وقد قيل: المرادُ بالميثاق هو الميثاقُ بالإيمان والتوحيد، وبالنقباءِ ملوكُ بني إسرائيلَ الذين ينقُبون أحوالَهم، ويَلُون أمورَهم بالأمر والنهي، وإقامةِ العدل، وهو الأنسب بقوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءاتَيْتُمْ الزكواة وَآمَنتُم بِرُسُلِي} أي بجميعِهم واللامُ موطِّئةٌ للقسم المحذوفِ وتأخيرُ الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاءِ الزكاة مع كونهم من الفروع المترتبةِ عليه لِما أنهم كانوا معترفين بوجوبِهما مع ارتكابِهم لتكذيبِ بعضِ الرسل عليهم السلام، ولمراعاة المقارَنةِ بينه وبين قوله تعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي نصرتموهم وقوَّيتموهم، وأصله الذّبُّ وقيل: التعظيمُ والتوقيرُ والثناءُ بخير. وقرئ {وعزَزْتُموهم} بالتخفيف {وَأَقْرَضْتُمُ الله} بالإنفاق في سبيل الخير، أو بالتصدق بالصدقات المندوبة، وقوله تعالى: {قَرْضًا حَسَنًا} إما مصدرٌ مؤكّدٌ وارد على غير صيغة المصدر، كما في قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} أو مفعولٌ ثانٍ لأقرضتم على أنه اسم للمال المُقْرَض، وقوله تعالى: {لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ} جوابٌ للقسم المدلولِ عليه باللام سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط {سيئاتكم وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} عطفٌ على ما قبله داخل معه في حُكم الجواب، متأخرٌ عنه في الحصول أيضاً، ضرورةَ تقدُّمِ التخلية على التحلية. {فَمَن كَفَرَ} أي برسلي أو بشيءٍ مما عُدِّد في حيِّز الشرط، والفاءُ لترتيب بيانِ حُكمِ من كفَر على بيان حُكمِ من آمن، تقويةً للترغيب بالترهيب {بَعْدَ ذَلِكَ} الشرطِ المؤكّدِ المُعلَّقِ به الوعدُ العظيمُ الموجِبُ للإيمان قطعاً {مّنكُمْ} متعلِّقٌ بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً من فاعل كفَرَ، ولعل تغييرَ السبْكِ حيث لم يقل وإن كفرتم عطفاً على الشرطية السابقة لإخراج كفرِ الكلِّ عن حيِّز الاحتمال، وإسقاطِ من كفَرَ عن رُتبة الخطاب، وليس المرادُ إحداثَ الكفر بعد الإيمان، بل ما يعمُّ الاستمرارَ عليه أيضاً، كأنه قيل: فمن اتّصفَ بالكفر بعد ذلك، خلا أنه قصَدَ بإيراد ما يدلّ على الحدوث بيانَ ترقِّيهم في مراتب الكفر، فإن الاتصافَ بشيءٍ بعد ورودِ ما يوجبُ الإقلاعَ عنه، وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسَب العنوان فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادث {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أي وسَطَ الطريق الواضحَ ضلالاً بيناً، وأخطأه خطأً فاحشاً، لا عذرَ معه أصلاً، بخلافِ من كفر قبل ذلك، إذْ ربما يمكنُ أن يكون له شُبْهةٌ، ويُتَوهَّمُ له معذرةً.


{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} الباء سببية، و(ما) مزيدةٌ لتأكيد الكلام وتمكينِه في النفس، أي بسبب نقضِهم ميثاقَهم المؤكَّدَ لا بشيءٍ آخرَ استقلالاً أو انضماماً {لعناهم} طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا، أو مسخناهم قِرَدَةً وخنازيرَ، أو أذللناهم بضرب الجزيةِ عليهم. وتخصيصُ البيان بما ذُكر مع أن حقَّه أن يبيَّنَ بعد بيانِ تحققِ نفسِ اللعنِ والنقضِ، بأن يقال مثلاً: فنقَضوا ميثاقَهم فلعنّاهم ضرورةَ تقدّمِ هيئةِ الشيءِ البسيطةِ على هيئتِه المُركّبة للإيذانِ بأن تحققَهما أمرٌ جليٌّ غنيٌّ عن البيان، وإنما المحتاجُ إلى ذلك ما بينهما من السببية والمُسبَّبية {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} بحيث لا تتأثرُ من الآيات والنذُر، وقيل: أملينا لهم ولم نعاجِلْهم بالعقوبة حتى قَسَتْ، أو خذلناهم ومنعناهم الألطافَ حتى صارت كذلك وقرئ {قَسِيّة}، وهي إما مبالغةُ قاسية، وإما بمعنى رديئة، من قولهم: دِرْهمٌ قِسيٌّ، أي رديء، إذا كان مغشوشاً له يَبْسٌ وخشونة، وقرئ بكسر القاف إتباعاً لها بالسين {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} استئنافٌ لبيان مرتبةِ قساوةِ قلوبهم فإنه لا مرتبةَ أعظمُ مما يصحح الاجتراءَ على تغيير كلامِ الله عز وجل والافتراءَ عليه، وصيغةُ المضارع للدلالة على التجدُّد والاستمرار، وقيل: حالٌ من مفعول لعناهم {وَنَسُواْ حَظَّا} أي تركوا نصيباً وافراً {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} من التوراة ومن اتّباع محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وقيل: حرفوا التوراةَ وزلَّتْ أشياءُ منها عن حفظهم، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: قد ينسى المرءُ بعضَ العلم بالمعصية وتلا هذه الآية {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} أي خيانةٍ على أنها مصدرٌ كلاغيةٍ وكاذبةٍ أو فَعْلةٍ خائنة، أي ذاتِ خيانة، أو طائفةٍ خائنة، أو شخصٍ خائنةٍ، على أن التاء للمبالغة، أو نفسٍ خائنةٍ، و{منهم} متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لها، خلا أن (مِنْ) على الوجهين الأولين ابتدائيةٌ، أي على خيانةٍ أو على فعلةٍ خائنةٍ كائنةٍ منهم صادرةٍ عنهم، وعلى الوجوه الباقيةِ تبعيضية، والمعنى أن الغدرَ والخيانة عادةٌ مستمرة لهم ولأسلافهم بحيث لا يكادون يترُكونها ويكتُمونها فلا تزال ترى ذلك منهم.
{إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} استثناء من الضمير المجرور في {منهم} على الوجوه كلِّها، وقيل: مِنْ خائنة على الوجوه الثلاثةِ الأخيرة، والمرادُ بهم الذين آمنوا منهم كعبد اللَّه بنِ سَلام وأضرابِه، وقيل: من خائنة على الوجه الثاني، فالمرادُ بالقليل الفعلُ القليل، ومِنْ ابتدائيةٌ كما مر، أي إلا فعلاً قليلاً كائناً منهم {فاعف عَنْهُمْ واصفح} أي إن تابوا وآمنوا أو عاهدُوا والتزموا الجزية، وقيل: مطلقٌ نُسخ بآيةِ السيف {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} تعليلٌ للأمر وحثٌّ على الامتثال به، وتنبيهٌ على أن العفوَ على الإطلاقِ من باب الإحسان.
{وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم} بيانٌ لقبائح النصارى وجناياتهم إثرَ بيان قبائحِ اليهود وخياناتِهم، و(مِن) متعلقة بـ {أخذنا}، إذِ التقديرُ وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم، وتقديمُ الجار والمجرور للاهتمام به، ولأن ذكرَ حال إحدى الطائفتين مما يوقعُ في ذهن السامع أن حالَ الأخرى ماذا؟ فكأنه قيل: ومن الطائفة الأخرى أيضاً أخذنا ميثاقهم، وقيل: هي متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع خبراً لمبتدأ محذوفٍ قامت صفتُه أو صلتُه مَقامه، أي ومنهم قومٌ أخذنا ميثاقهم، أو مَنْ أخذنا ميثاقهم، وضميرُ {ميثاقَهم} راجعٌ إلى الموصوف المقدر، وأما في الوجه الأولِ فراجعٌ إلى الموصول، وقيل: راجع إلى بني إسرائيل، أي أخذنا من هؤلاء ميثاق أولئك، أي مثل ميثاقهم من الإيمان بالله والرسل، وبما يتفرع على ذلك من أفعال الخير، وإنما نَسَب تسميتَهم نصارى إلى أنفسهم دون أن يُقال ومن النصارى إيذاناً بأنهم في قولهم نحن أنصارُ الله بمعزلٍ من الصدق، وإنما هو تقوّلٌ محْضٌ منهم، وليسوا من نُصْرة الله تعالى في شيء، أو إظهاراً لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم، فإن ادعاءهم لنُصْرته تعالى يستدعي ثباتَهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه {فَنَسُوا} عَقيبَ أخذِ الميثاق من غير تلعثم {حَظّاً} وافراً {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك حسبما مرَّ آنفاً، وقيل: هو ما كُتب عليهم في الإنجيل من أن يُؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام فتركوه ونبذوه وراء ظهورهم، واتبعوا أهواءهم فاختلفوا وتفرقوا نِسطوريةً ويعقوبيةً وملكانية أنصاراً للشيطان، {فَأَغْرَيْنَا} أي ألزمنا وألصَقنا، من غرِيَ بالشيء إذا لزمه ولصِق به، وأغراه غيرُه، ومنه الغِراء، وقوله تعالى: {بَيْنَهُمْ} إما ظرف لأغرينا أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من مفعوله، أي أغرينا {العداوة والبغضاء} كائنة بينهم، ولا سبيل إلى جعله ظرفاً لهما، لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، وقوله تعالى: {إلى يَوْمِ القيامة} إما غاية للإغراء أو للعداوة والبغضاء، أي يتعادَوْن ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤُهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الثلاثة، فضمير {بينهم} لهم خاصة، وقيل: لهم ولليهود، أي أغرينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعّده: سأخبرك بما فَعَلت، أي يجازيهم بما عملوه على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذُكِّروا به، و(سوف) لتأكيد الوعيد، والالتفاتُ إلى ذكر الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة لتشديد الوعيد، والتعبيرُ عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم في ذلك، وعن المجازاة بالتنبئة للتنبيه على أنهم لا يعلمون حقيقةَ ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعِها للعذاب، فيكونُ ترتيبُ العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها.


{يَا أَهْلِ الكتاب} التفاتٌ إلى خطاب الفريقين على أن الكتاب جنسٌ شاملٌ للتوراة والإنجيل إثرَ بيانِ أحوالهما من الخيانة وغيرها من فنون القبائح ودعوةٌ لهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، وإيرادُهم بعنوان أهلية الكتاب لانطواء الكلامِ المصدَّر به على ما يتعلق بالكتاب وللمبالغة في التشنيع، فإن أهلية الكتاب من موجباتِ مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا من الكَتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} الإضافة للتشريف، والإيذانِ بوجوب اتباعه وقوله تعالى: {ُبَيّنُ لَكُمْ} حال من رسولنا، وإيثارُ الجملة الفعلية على غيرها للدَلالة على تجدّد البيان، أي قد جاءكم رسولُنا حال كونه مبيناً لكم على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة {كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} أي التوراةِ والإنجيل كبِعثةِ محمد عليه الصلاة والسلام، وآيةِ الرجم في التوراة وبشارةِ عيسى بأحمدَ عليهما السلام في الإنجيل، وتأخيرُ {كثيراً} عن الجار والمجرور لما مر مراراً من إظهار العناية بالمُقدَّم، لما فيه من تعجيل المَسَرَّة والتشويق إلى المؤخر لأن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر لا سيما مع الإشعار بكونه من منافع المخاطَب تبقَى النفسُ مترقبة إلى وروده، فيتمكن عندها إذا ورد فضلُ تمكنٍ، ولأن في المؤخَّر ضربَ تفصيل رمبا يُخِلُّ تقديمُه بتجاذب أطرافِ النظم الكريم، فإن {مما} متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لكثيراً، و{ما} موصولة اسمية وما بعدها صلتُها، والعائدُ إليها محذوف، و{من الكتاب} متعلق بمحذوف هو حال من العائد المحذوف، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء، أي يبين لكم كثيراً من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والمتمسكون به {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي ولا يُظهر كثيراً مما تخفونه، إذا لم تدعُ إليه داعيةٌ دينية صيانةً لكم عن زيادة الافتضاح كما يُفصحُ عنه التعبير عن عدم الإظهار بالعفو، وفيه حثّ لهم على عدم الإخفاء ترغيباً وترهيباً، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلةٌ في حكمها، وقيل: يعفو عن كثيرٍ منكم ولا يؤاخذه، وقوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ} جملة مستأنفةٌ مسوقةٌ لبيان أن فائدةَ مجيءِ الرسول ليست منحصرةً فيما ذُكر من بيانِ ما كانوا يُخفونه، بل له منافعُ لا تحصى، و{من الله} متعلقٌ بجاء، و{من} لابتداء الغاية مجازاً، أو بمحذوفٍ وقع حالاً من نور، وأياً ما كان فهو تصريحٌ بما يشعر به إضافةُ الرسول من مجيئه من جنابه عز وجل، وتقديمُ الجار والمجرور على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجيء من جهته العالية، والتشويق إلى الجائي، ولأن فيه نوعَ تطويلٍ يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم، كما في قوله تعالى: {وَجَاءكَ فِى هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} وتنوين {نور} للتفخيم، والمراد به وبقوله تعالى: {وكتاب مُّبِينٌ} القرآن، لما فيه من كشف ظلمات الشرْك والشك وإبانة ما خفِيَ على الناس من الحق والإعجاز البيِّن، والعطف لتنزيل المغايَرَة بالعنوان منزلة المُغايرة بالذات، وقيل: المرادُ بالأول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وبالثاني القرآن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8